عواء الحرمان عن فيلم "الراكد" لياسمين قصاري
محمد الحاضي
أشارت بعض الدراسات النقدية [i] في تناولها لفيلم "الراكد" للمخرجة ياسمين قصاري، إلى الحضور المتبادل والمتكامل لفيلمها الوثائقي (عندما يبكي الرجال – 2002) وفيلمها التخييلي (الراكد – 2004) في بعضهما البعض ..ذلك ما أجابت عنه المخرجة نفسها " بحضور انتظارات و خطاب " هذا في ذاك.. ( في حوار معها بالمجلة السابقة ) مع تأكيدها القاطع على الطبيعة التخييلية الصرفة لفيلمها الراكد، والتي تمتح جيدا من الواقع (أي هذه الطبيعة). لم أشاهد فيلمها الوثائقي المعني، لكن يمكنني أن أستخلص من هذا التقديم أن تيمة / تيمات الراكد ظلت تشغل جدا وعي ومعرفة و رؤية المخرجة. وبعبارة أخرى، فإنها أتت إلى الراكد، كأول فيلم مطول لها، بعد، غير قليل، من الجهد، والإلمام والاحتكاك بالواقع الاجتماعي والثقافي للمكان ( دوار بالمغرب الشرقي) ومن الدربة الثقافية البصرية، دراسة وتطبيقا. وبعبارة أوجز، فإنها لم تأت إلى فيلمها هذا، والسينما بعامة، بعفوية أو بضربة صدفة.. وقد جاء الراكد ، فعلا، على مقاس إصرارها، وعشقها للفن السابع .
الفيلم من سينما البساطة ، إن صحت التسمية. و البساطة لا تعني الابتذال والاستسهال والسطحية ، إنها سليلة الراسخون في الإبداع ، في السينما كما في غيرها. وبديهي القول، هنا، أن لا دخل للعمر في هذه الصفة . وقد صدق المخرج الإيراني عباس كيارستامي الذي قال مرة ما معناه ، أنه من الصعب أن تكون بسيطا في الإخراج السينمائي.. تتجلى بساطة الفيلم في الاحترام السينماتوغرافي للواقع الاجتماعي، ذاك المعزول والمنذور للهامش: فقر الديكور، تمثيل خام، تصوير وتأطير احترافي جميل (حيث تتوفق ، فيما يشبه العادة، العين الأجنبية في حسن بل وروعة تصويرنا، مع بعض الكارطبوسطالية..) حوار مقتضب لا مفتعل ، لغة / لغات أصلية ، أخلاقيات الإيحاء والتلميح والترميز..
في دوار متوار من شعاب المغرب العميق، يتزوج الرجال ليرحلوا مباشرة إلى الخارج.. مخلفين وراءهم نساء يلكن الحرمان والانتظار، لا تربطهن بالعالم الخارجي إلا شاحنة ضجرة قديمة.. هذا ملخص حكاية فيلم فرضت فيه " منطقية الواقع الاجتماعي " على المخرجة أن تكون ، في نفس الآن أنتربولوجية وسوسيولوجية ونفسانية.
1.
في المستوى الأول تحضر الثقافة المجتمعية العميقة في الفيلم ( الفقيه، الثقاف، الراكد، الفال، الحروز، الرقص الشعبي..) ليس بشكل مبتسر ومصطنع يروم الفكرة لذاتها.. ولأجل الآخر.. وإنما لوظيفتها الاجتماعية والنفسية في مساعدة الناس على التوازن و التحمل. هذا ما يقوله الواقع الاجتماعي المغربي نفسه، وهذا ما يشهد عليه الراكد. والأجمل أو الأدهى، أن الفيلم حملنا إلى الاستغراق في هذه الرموز حد التواطؤ.. فكم يلزم من الوقت و التغيير لكي تقتنع زينب ( و المجتمع ) بلا معقولية الراكد في بطنها؟ هو ذا السؤال، الذي لا ينفع معه إصدار أحكام القيمة النابذة أو المؤيدة لهذه الرموز، وكأن رؤية المخرجة ورأيها يقول : لنعرف مجتمعنا أولا..
في المستوى الثاني، أي السوسيولوجي، يطرح الفيلم تيمات الأرض، المناخ، العمل، الزواج، الهجرة.. بخلفية التشابك العلائقي، وبقصدية ربط النتائج بأسبابها وآثارها: الرجال يهاجرون ( نتيجة) هروبا من الظنك والجفاف والعطالة واللاجدوى في دوارهم البئيس (أسباب ) والنساء يعشن الانتظار مضطربات محرومات فقيرات منكودات (آثار). على أن الفيلم لم يخل، هنا، من بعض الدروس الأخلاقية، مثل الموقف الرافض للهجرة والمنافح عن العمل الجدي للرجال هنا بهذه الأرض: كما عبرت عنه أم حسن ( لولدها ) في أول الفيلم. أو موقف المقتنع بالعودة إلى بلاده لفلاحة الزيتون (الشاب مزيان). وعلى كل حال فالتربية والتوجيه والأخلاق، هي أيضا، من جدول انتظارات مجتمعنا من السينما..
ونصل إلى المستوى الثالث، حيث أصابت المخرجة وبرعت، أي إلى القارة النفسية للإنسان، إلى الإنسان كظاهرة نفسية. كل بطولة نساء الفيلم، بمختلف أجيالهن، تكاد تتكثف في هذا المستوى. يحفر الفيلم في الأغوار الشعورية لهذا الراكد ( وما تخصيص زينب به إلا لضرورة شخصنة الأسطورة والرمز في بطنها الحديث الزواج..) آبارا سديمية من الانتظار والحرمان.. آبارا فيها العميق وفيها القريب، فيها البارد وفيها اليغلي، فيها المتقد وفيها المطفي..
فالجدة ، قوية الشخصية ، جلودة ، حكيمة، ذاكرة، وسلطة .. صحيح أنها بسنها العتي وعميها وترملها لا تنتظر شيئا.. إلا أنها، لا تدرك فقط، عمق معاناة الأخريات ، بل وتتلظى معهن بنارها ( المعاناة) لهذا رأيناها تمد يدها، كالبلسم، مرة إلى وجه ابنتها و أخرى إلى وجه زينب.. و فهمنا سماحها " لتحرير " جسدي زينب وحليمة في نداوة و طراوة و حنو الماء بالغدير.. ( كما " حررت " تلاميذ المدرسة لنداء الخبز الساخن، الذي هو معنى الديمقراطية كما أجابت تلميذة المعلم. و بمناسبة الحديث عن المدرسة، يمكن القول أن الفيلم عكس هامشيتها وحضورها الغائب.. فهي لا تظهر في إطار فضاء الدوار.. وجاءت في الفيلم على حين غرة وكأنها مقحمة فقط. صحيح أنها كانت ضرورية في الفيلم للإجابة عن إلحاح حليمة لتعليم ابنتها سهام.. لكن ربط تفسير الديمقراطية بالخبز فيه إقحام لبعض السخرية السياسوية..) ورأيناها، أخيرا، تصاحب زينب وسهام إلى تاوريرت ليأخذن صورة.. فيما يشبه خرق العادة، و المحافظة.. وفي رأي حسن في النازلة ما يؤكد هذا الخرق، إذ أمر زينب بعدم الذهاب إلى تاوريرت ، و كتب ذلك على ظهر نفس الصورة التي أرسلتها له.. وكأنه لا يريد أن يحتفظ بهذا الذنب/الصورة..
والأم، ألمها مضاعف. فهي ما تزال يانعة، لكنها أرملة كتب عليها الحرمان الأبدي. ينضاف إلى ذلك ألم هجرة ولدها حسن.. ألم انتظاره .. ألم انتظار كنتها زينب.. و ألم الراكد في بطن الأخيرة.. و موت الأم المفاجئ في الفيلم، يمكن أن يعزى إلى كمد هذا التضعيف..
زينب عروسة تنتظر العسل .. نومت نحل الرغبة بالراكد ، بأمر من الأم ، وأذعنت للانتظار. كل الألم مكثف في تقاسيم وجهها، وليس في كلامها كحليمة.
حليمة صوت التعبير عن ألم الانتظار ( أحمد زوجها هاجر ثم غبر هناك..): فعندما مرضت قالت أن السبب هو "الفقايس وليس لرياح".. ولما عوقبت بالضرب المبرح على لقائها بالشاب مزيان قالت لزينب "اللهم حالتي ولا حياتك".. حليمة أيضا صوت التمرد : على أميتها بتعليم ابنتها سهام ، على لا جدوى موانع الحمل بالتخلص منها.. على أنوثتها المهدورة بعناق مزيان.. ( المواجهة بين الأخير وزوجها أحمد في بداية الفيلم لها معنى إذن..) على لا معقولية الراكد في بطن زينب.. وعلى الانتظار بالدوار برحيلها الحزين.. فهل هي صوت الما ينبغي أن يكون ؟ أستسمح المشاهد والقارئ إن عبرت ، هنا ، عن إعجابي بشخصية حليمة بأداء الممثلة رشيدة براكني.
سهام طفلة بريئة، يقظة وشغوفة بالسؤال. لكن بذور الخوف تزرع أحيانا في عيونها وملامحها. تركتها حليمة، بعد الرحيل، مع الجدة وزينب. فهل ستخلص المدرسة مستقبلها من الخوف والانتظار؟ هي أمل في الفيلم..
2.
يمكن تقسيم أزمة الفيلم ( مدته، وزمنه الحكائي والفني والنفسي ) إلى ثلاث مراحل مداها، تماما على مقاس المقدمة والعرض والخاتمة..
في الأولى نرى الإعداد لحفلة زواج حسن بزينب، حيث تفرح الكاميرا وتخف بعض الشيء بأجواء وطقوس الحفل، لكنه فرح مشوب بالتوتر والقلق و الترقب..
بعد تلك الليلة، توقظنا الكاميرا باكرا على غبوشة من فراغ ودخان ورحيل، فتبدأ المرحلة الثانية، وهي مرحلة طويلة فيها يبني الفيلم مسارات وأغوار الانتظار والحرمان على مهله.. إن الإيقاع البطيء لحركة الفيلم.. واللقطات الثابتة العديدة.. والمكبرة.. والمشاهد البانورامية .. تحملنا جيدا إلى التملي في أحوال ووجوه وأعماق الانتظار والحرمان والهشاشة والفقر في بيئة يحكم فيها سلطان العزلة والرتابة والروتين والضجر والانسحاق الداخلي ، يحكم بما يشبه طقسا جنائزيا مجللا .. هكذا نرى سكونا لا يمزقه، أحيانا، إلا بعض النهيق.. ونرى ألوان الفصول وهي تتعاقب في آلة الزمان ، حيث الليل / الليالي في الفيلم هي الأقسى .. إذ فيها يجثو ألم الانتظار، وتلحظ عيون الحرمان. وكم هي جميلة ملتاعة تلك اللقطة التي تعانقت فيها زينب وحليمة التي أخذت تعوي كذئب ضائع في ليالي القفار.. نشير في هذه المرحلة، إلى تكرار رمزية حلب زينب للعنزة.. واهتمام حليمة بالبيض (وجدته خاسرا في المرة الأولى وكسرته تكسيرا في الثانية، عندما علمت بانقطاع أثر أحمد، حيث ذبحت فروجا، أي ذكر..واحتفلن جميعهن بازدراده) فهل توحي هذه الرمزية فقط بالوظيفة الحيوانية للأنثى في هذه البيئة؟ هل توحي بضغط حليب وبيض الرغبة ؟
تبدأ المرحلة الثالثة/الأخيرة في الفيلم بعد رحيل حليمة ، لتجد زينب نفسها في مواجهة الانتظار رأسا لرأس.. لقد قالت لها صديقتها قبل أن تمضي "أنت هي أنا هنا" فهل ستقفو آثر حليمة في الانتفاض؟ ينبؤنا نزولها إلى تاوريرت ، رفقة الجدة وسهام ، وشيء من إطلالة صدرها من تحت الإزار.. والتحول الجميل في هندامها.. و" تحريرها " للراكد في الانسياب المتأني والصافي لماء الغدير.. بالأمل في هذا الأثر.
3.
الأفلام التي لها طابع الإقامة الجديرة والمعتبرة في الفيلموغرافية المغربية قليلة طبعا. الراكد ، أحدها. فبالسينما/ الصورة تكتب ياسمين قصارى حكايات متخيلها، وتعلن عن انتمائها لهذا المغرب المنعزل المنسي. وبالكاميرا، كتقنية تواصلية عصرية، يتواصل النساء هنا والرجال هناك. النساء يتزين ويسرحن الشعر أمامها، أي يحتفلن أمامها بحرية. زينب استوعبت بسرعة كيفية اشتغالها.. وراودتها الرغبة في اكتراء أخرى بعد فقدان أملها في الأولى.. قبل أن تلود بالصورة الثابتة في تاوريرت.. ياسمين قصاري، تؤكد بالإبداعية الجميلة لفيلمها الراكد أن القرب من الطفولة، ومن المراتع الأولى، يزداد، فعلا، كلما ابتعدنا في الزمن والمسافة..
أشارت بعض الدراسات النقدية [i] في تناولها لفيلم "الراكد" للمخرجة ياسمين قصاري، إلى الحضور المتبادل والمتكامل لفيلمها الوثائقي (عندما يبكي الرجال – 2002) وفيلمها التخييلي (الراكد – 2004) في بعضهما البعض ..ذلك ما أجابت عنه المخرجة نفسها " بحضور انتظارات و خطاب " هذا في ذاك.. ( في حوار معها بالمجلة السابقة ) مع تأكيدها القاطع على الطبيعة التخييلية الصرفة لفيلمها الراكد، والتي تمتح جيدا من الواقع (أي هذه الطبيعة). لم أشاهد فيلمها الوثائقي المعني، لكن يمكنني أن أستخلص من هذا التقديم أن تيمة / تيمات الراكد ظلت تشغل جدا وعي ومعرفة و رؤية المخرجة. وبعبارة أخرى، فإنها أتت إلى الراكد، كأول فيلم مطول لها، بعد، غير قليل، من الجهد، والإلمام والاحتكاك بالواقع الاجتماعي والثقافي للمكان ( دوار بالمغرب الشرقي) ومن الدربة الثقافية البصرية، دراسة وتطبيقا. وبعبارة أوجز، فإنها لم تأت إلى فيلمها هذا، والسينما بعامة، بعفوية أو بضربة صدفة.. وقد جاء الراكد ، فعلا، على مقاس إصرارها، وعشقها للفن السابع .
الفيلم من سينما البساطة ، إن صحت التسمية. و البساطة لا تعني الابتذال والاستسهال والسطحية ، إنها سليلة الراسخون في الإبداع ، في السينما كما في غيرها. وبديهي القول، هنا، أن لا دخل للعمر في هذه الصفة . وقد صدق المخرج الإيراني عباس كيارستامي الذي قال مرة ما معناه ، أنه من الصعب أن تكون بسيطا في الإخراج السينمائي.. تتجلى بساطة الفيلم في الاحترام السينماتوغرافي للواقع الاجتماعي، ذاك المعزول والمنذور للهامش: فقر الديكور، تمثيل خام، تصوير وتأطير احترافي جميل (حيث تتوفق ، فيما يشبه العادة، العين الأجنبية في حسن بل وروعة تصويرنا، مع بعض الكارطبوسطالية..) حوار مقتضب لا مفتعل ، لغة / لغات أصلية ، أخلاقيات الإيحاء والتلميح والترميز..
في دوار متوار من شعاب المغرب العميق، يتزوج الرجال ليرحلوا مباشرة إلى الخارج.. مخلفين وراءهم نساء يلكن الحرمان والانتظار، لا تربطهن بالعالم الخارجي إلا شاحنة ضجرة قديمة.. هذا ملخص حكاية فيلم فرضت فيه " منطقية الواقع الاجتماعي " على المخرجة أن تكون ، في نفس الآن أنتربولوجية وسوسيولوجية ونفسانية.
1.
في المستوى الأول تحضر الثقافة المجتمعية العميقة في الفيلم ( الفقيه، الثقاف، الراكد، الفال، الحروز، الرقص الشعبي..) ليس بشكل مبتسر ومصطنع يروم الفكرة لذاتها.. ولأجل الآخر.. وإنما لوظيفتها الاجتماعية والنفسية في مساعدة الناس على التوازن و التحمل. هذا ما يقوله الواقع الاجتماعي المغربي نفسه، وهذا ما يشهد عليه الراكد. والأجمل أو الأدهى، أن الفيلم حملنا إلى الاستغراق في هذه الرموز حد التواطؤ.. فكم يلزم من الوقت و التغيير لكي تقتنع زينب ( و المجتمع ) بلا معقولية الراكد في بطنها؟ هو ذا السؤال، الذي لا ينفع معه إصدار أحكام القيمة النابذة أو المؤيدة لهذه الرموز، وكأن رؤية المخرجة ورأيها يقول : لنعرف مجتمعنا أولا..
في المستوى الثاني، أي السوسيولوجي، يطرح الفيلم تيمات الأرض، المناخ، العمل، الزواج، الهجرة.. بخلفية التشابك العلائقي، وبقصدية ربط النتائج بأسبابها وآثارها: الرجال يهاجرون ( نتيجة) هروبا من الظنك والجفاف والعطالة واللاجدوى في دوارهم البئيس (أسباب ) والنساء يعشن الانتظار مضطربات محرومات فقيرات منكودات (آثار). على أن الفيلم لم يخل، هنا، من بعض الدروس الأخلاقية، مثل الموقف الرافض للهجرة والمنافح عن العمل الجدي للرجال هنا بهذه الأرض: كما عبرت عنه أم حسن ( لولدها ) في أول الفيلم. أو موقف المقتنع بالعودة إلى بلاده لفلاحة الزيتون (الشاب مزيان). وعلى كل حال فالتربية والتوجيه والأخلاق، هي أيضا، من جدول انتظارات مجتمعنا من السينما..
ونصل إلى المستوى الثالث، حيث أصابت المخرجة وبرعت، أي إلى القارة النفسية للإنسان، إلى الإنسان كظاهرة نفسية. كل بطولة نساء الفيلم، بمختلف أجيالهن، تكاد تتكثف في هذا المستوى. يحفر الفيلم في الأغوار الشعورية لهذا الراكد ( وما تخصيص زينب به إلا لضرورة شخصنة الأسطورة والرمز في بطنها الحديث الزواج..) آبارا سديمية من الانتظار والحرمان.. آبارا فيها العميق وفيها القريب، فيها البارد وفيها اليغلي، فيها المتقد وفيها المطفي..
فالجدة ، قوية الشخصية ، جلودة ، حكيمة، ذاكرة، وسلطة .. صحيح أنها بسنها العتي وعميها وترملها لا تنتظر شيئا.. إلا أنها، لا تدرك فقط، عمق معاناة الأخريات ، بل وتتلظى معهن بنارها ( المعاناة) لهذا رأيناها تمد يدها، كالبلسم، مرة إلى وجه ابنتها و أخرى إلى وجه زينب.. و فهمنا سماحها " لتحرير " جسدي زينب وحليمة في نداوة و طراوة و حنو الماء بالغدير.. ( كما " حررت " تلاميذ المدرسة لنداء الخبز الساخن، الذي هو معنى الديمقراطية كما أجابت تلميذة المعلم. و بمناسبة الحديث عن المدرسة، يمكن القول أن الفيلم عكس هامشيتها وحضورها الغائب.. فهي لا تظهر في إطار فضاء الدوار.. وجاءت في الفيلم على حين غرة وكأنها مقحمة فقط. صحيح أنها كانت ضرورية في الفيلم للإجابة عن إلحاح حليمة لتعليم ابنتها سهام.. لكن ربط تفسير الديمقراطية بالخبز فيه إقحام لبعض السخرية السياسوية..) ورأيناها، أخيرا، تصاحب زينب وسهام إلى تاوريرت ليأخذن صورة.. فيما يشبه خرق العادة، و المحافظة.. وفي رأي حسن في النازلة ما يؤكد هذا الخرق، إذ أمر زينب بعدم الذهاب إلى تاوريرت ، و كتب ذلك على ظهر نفس الصورة التي أرسلتها له.. وكأنه لا يريد أن يحتفظ بهذا الذنب/الصورة..
والأم، ألمها مضاعف. فهي ما تزال يانعة، لكنها أرملة كتب عليها الحرمان الأبدي. ينضاف إلى ذلك ألم هجرة ولدها حسن.. ألم انتظاره .. ألم انتظار كنتها زينب.. و ألم الراكد في بطن الأخيرة.. و موت الأم المفاجئ في الفيلم، يمكن أن يعزى إلى كمد هذا التضعيف..
زينب عروسة تنتظر العسل .. نومت نحل الرغبة بالراكد ، بأمر من الأم ، وأذعنت للانتظار. كل الألم مكثف في تقاسيم وجهها، وليس في كلامها كحليمة.
حليمة صوت التعبير عن ألم الانتظار ( أحمد زوجها هاجر ثم غبر هناك..): فعندما مرضت قالت أن السبب هو "الفقايس وليس لرياح".. ولما عوقبت بالضرب المبرح على لقائها بالشاب مزيان قالت لزينب "اللهم حالتي ولا حياتك".. حليمة أيضا صوت التمرد : على أميتها بتعليم ابنتها سهام ، على لا جدوى موانع الحمل بالتخلص منها.. على أنوثتها المهدورة بعناق مزيان.. ( المواجهة بين الأخير وزوجها أحمد في بداية الفيلم لها معنى إذن..) على لا معقولية الراكد في بطن زينب.. وعلى الانتظار بالدوار برحيلها الحزين.. فهل هي صوت الما ينبغي أن يكون ؟ أستسمح المشاهد والقارئ إن عبرت ، هنا ، عن إعجابي بشخصية حليمة بأداء الممثلة رشيدة براكني.
سهام طفلة بريئة، يقظة وشغوفة بالسؤال. لكن بذور الخوف تزرع أحيانا في عيونها وملامحها. تركتها حليمة، بعد الرحيل، مع الجدة وزينب. فهل ستخلص المدرسة مستقبلها من الخوف والانتظار؟ هي أمل في الفيلم..
2.
يمكن تقسيم أزمة الفيلم ( مدته، وزمنه الحكائي والفني والنفسي ) إلى ثلاث مراحل مداها، تماما على مقاس المقدمة والعرض والخاتمة..
في الأولى نرى الإعداد لحفلة زواج حسن بزينب، حيث تفرح الكاميرا وتخف بعض الشيء بأجواء وطقوس الحفل، لكنه فرح مشوب بالتوتر والقلق و الترقب..
بعد تلك الليلة، توقظنا الكاميرا باكرا على غبوشة من فراغ ودخان ورحيل، فتبدأ المرحلة الثانية، وهي مرحلة طويلة فيها يبني الفيلم مسارات وأغوار الانتظار والحرمان على مهله.. إن الإيقاع البطيء لحركة الفيلم.. واللقطات الثابتة العديدة.. والمكبرة.. والمشاهد البانورامية .. تحملنا جيدا إلى التملي في أحوال ووجوه وأعماق الانتظار والحرمان والهشاشة والفقر في بيئة يحكم فيها سلطان العزلة والرتابة والروتين والضجر والانسحاق الداخلي ، يحكم بما يشبه طقسا جنائزيا مجللا .. هكذا نرى سكونا لا يمزقه، أحيانا، إلا بعض النهيق.. ونرى ألوان الفصول وهي تتعاقب في آلة الزمان ، حيث الليل / الليالي في الفيلم هي الأقسى .. إذ فيها يجثو ألم الانتظار، وتلحظ عيون الحرمان. وكم هي جميلة ملتاعة تلك اللقطة التي تعانقت فيها زينب وحليمة التي أخذت تعوي كذئب ضائع في ليالي القفار.. نشير في هذه المرحلة، إلى تكرار رمزية حلب زينب للعنزة.. واهتمام حليمة بالبيض (وجدته خاسرا في المرة الأولى وكسرته تكسيرا في الثانية، عندما علمت بانقطاع أثر أحمد، حيث ذبحت فروجا، أي ذكر..واحتفلن جميعهن بازدراده) فهل توحي هذه الرمزية فقط بالوظيفة الحيوانية للأنثى في هذه البيئة؟ هل توحي بضغط حليب وبيض الرغبة ؟
تبدأ المرحلة الثالثة/الأخيرة في الفيلم بعد رحيل حليمة ، لتجد زينب نفسها في مواجهة الانتظار رأسا لرأس.. لقد قالت لها صديقتها قبل أن تمضي "أنت هي أنا هنا" فهل ستقفو آثر حليمة في الانتفاض؟ ينبؤنا نزولها إلى تاوريرت ، رفقة الجدة وسهام ، وشيء من إطلالة صدرها من تحت الإزار.. والتحول الجميل في هندامها.. و" تحريرها " للراكد في الانسياب المتأني والصافي لماء الغدير.. بالأمل في هذا الأثر.
3.
الأفلام التي لها طابع الإقامة الجديرة والمعتبرة في الفيلموغرافية المغربية قليلة طبعا. الراكد ، أحدها. فبالسينما/ الصورة تكتب ياسمين قصارى حكايات متخيلها، وتعلن عن انتمائها لهذا المغرب المنعزل المنسي. وبالكاميرا، كتقنية تواصلية عصرية، يتواصل النساء هنا والرجال هناك. النساء يتزين ويسرحن الشعر أمامها، أي يحتفلن أمامها بحرية. زينب استوعبت بسرعة كيفية اشتغالها.. وراودتها الرغبة في اكتراء أخرى بعد فقدان أملها في الأولى.. قبل أن تلود بالصورة الثابتة في تاوريرت.. ياسمين قصاري، تؤكد بالإبداعية الجميلة لفيلمها الراكد أن القرب من الطفولة، ومن المراتع الأولى، يزداد، فعلا، كلما ابتعدنا في الزمن والمسافة..
تعليقات
إرسال تعليق