الأشكال الفرجوية المغربية:
إن الحديث عن المسرح في المغرب مرتبط بالأشكال الفرجوية التي عرفها الإنسان المغربي ، بطبعه الميال إلى التسلية والترفيه ، وسوف نقف على بعض هذه الأشكال دون أن نجزم أننا سنتمكن من حصرها كلها ، نظرا لعددها الكبير والمتنوع بتنوع الثقافات والمناطق واللهجات ، ونستعرض هنا بعض منها ونخص بالذكر أهم هذه الفرجات : الحلقة ، البساط ، سلطان الطلبة وعبيدات الرما ، في حين سنغفل الحديث عن فرجة سيدي الكتفي التي أخذت عن فن البساط وانتشرت بشكل خاص بمدينة الرباط ، وبعض الممارسات الفرجوية المحلية من قبيل بوجلود ، هرما ، أولاد سيدي احمد أوموسى ، أحواش ، أحيدوس ، موكب الشموع . . .) .
أ • الحـلـقة :
الحلقة مظهر من مظاهر ثقافتنا المغربية ، وشكل أبدعه الإنسان المغربي وطوره على امتداد تاريخه ، فالحلقة أخذت اسمها من شكلها الهندسي الذي يكون على شكل دائرة مغلقة يتوسطها صاحب أو أصحاب الحلقة " الحلايقي أو الحلايقية " الذي يكون عادة مختص (في فن الحكاية ، والإيماءة ، والألعاب البهلوانية)(1) ، (وهذا يعني أن هؤلاء الممثلين يقدمون فرجة كاملة يلتقي فيها الضحك ، والهزل ، والدراما ، والشعر ، والغناء ، والرقص ، والحكاية . وبما أن الكل يشارك في التشخيص فإن ميدان التعبير يتسع كثيرا)(2) ، كما انه من الناحية المبدئية يمكن للحلقة أن تتم في أي مكان ، لكن الجدار البشري ضروري لتستكمل الحلقة عناصرها وتحقق مقصديتها)(3) . وتقوم الحلقة أساسا على الخطاب الشفوي ، أي التواصل غير المكتوب بين الحلايقي وجمهوره المتحلق حوله ، هذا الجمهور الذي يكتفي بالاستماع ، التفرج أو المشاركة حسب نوعية نشاط الحلقة ، ومن الناحية الزمنية لا تتقيد الحلقة بوقت معلوم يلزم أن تستغرقه في تقديم عروضها ، فهي قد تطول وتمتد لتغطي الساعات الطوال كما أن لا شيء يمنعها نظريا على الأقل ، من تحديد مدة الفرجة وحصرها في وقت وجيز ..)(4) وللحلقة موضوعات تقدمها بشكل مركزي في عروضها ، بغرض الفرجة والإدهاش والإثارة وغير ذلك .. وقد اشتهرت ساحة جامع الفناء ، الساحة الشهيرة في قلب مدينة مراكش ، بل لقد ارتبطت الحلقة بهاته الساحة ، بهذا النوع الفرجوي عالميا ، في الوقت الذي افتقدت عدد من الساحات لهاته الفرجة ، كساحة الهديم بمكناس وساحة باب الفتوح وباب عسيجة بفاس وساحة البحيرة وسوق اشطيبة بالدار البيضاء وساحة باب الأحد بالرباط ، وساحة سيدي عبد الوهاب بوجدة، وعدد من الساحات بجل المدن المغربية والأسواق الأسبوعية
ب • البـساط:
هذا الفن الفرجوي الذي يعود تاريخه إلى القرن الثامن عشر حينما كان يقدم (أمام حضرة السلطان محمد بن عبد الله (1757-1790). ونظرا لأهمية هذه التظاهرة الترفيهية التي كانت ترمي كذلك إلى وعظ الناس وإرشادهم ، فإن الملوك كانوا يحيطون "المبسطين" بحفاوة كبرى )(5) ، وكثيرا ما كان " البساط " فرصة يغتنمها المشخصون لتبليغ شكواهم إلى الملك ، أو تذمرهم من أحد رجال السلطة)(6). كما أنه يمكن من الكشف عن عيوب المجتمع وفضح الممارسات المشبوهة التي لا يكون هنالك سبيل لإعلانها وإدانتها سوى بتشخيص أطوارها أمام أولي الأمر في قالب فني انتقادي يعتمد الرمز والمجاز أحيانا والتصريح المباشر أحيانا أخرى ، ويقال في هذا الصدد ، إن مدينة مراكش كانت هي المهد الأول لهذا الفن ، ثم انتشر في باقي المدن المغربية ، ويتميز هذا الفن بكون (الممثل يحمل تسمية خاصة ، ففي الشمال يطلقون عليه لقب " بوهو " وفي الجنوب يسمونه " المسيح " .. أما الشخوص فهم ثابتون لا يتغيرون في سائر التمثيليات ، فهناك أولا شخصية " الساط " الذي يمثل القوة والشجاعة وحب الإقدام والمغامرة ، ثم يأتي بعده " الياهو" ، أي اليهودي الذي يرمز إلى النفاق والجشع والخوف وكذا إلى الذكاء المفرط . وفي مقابل هاتين الشخصيتين ، نجد " حديدان " الذي يتميز بأوصاف حميدة ، كنسيان الذات ، وطهارة النفس ، وحب الآخرين ، إلى غير ذلك من الفضائل ، التي تجعله محبوبا ، خصوصا وأنه يحمل في مواقفه رسالة صاحب التمثيلية ، كما أنه يمسك بأطراف الحادثة وألغازها.)(7) ، وبالرغم من أن نفس الشخوص تأتي دوما في تمثيلية البساط ، فإن موضوعها يتغير ويتجدد)(8) ، ومن هنا بإمكاننا أن ندرك أهمية البساط كفن لا ينغلق في جوانب التسلية العقيمة ، بقدر ما يبرر ظاهرته كفن يفضح أساليب الظلم وعيوب المجتمع ، فهو إذن يحمل إرهاصات الإلتزام العميق ، كمسرح تقليدي عرف عصره الذهبي طيلة حكم المولى عبد العزيز (1895-1905) ، وقام بدور فعال في نطاق الحركة الوطنية إلى حد أنه عندما طبعته السفاهة ، في غضون 1926 ، توجهت جماعة من أهل فاس إلى قصر محمد الخامس وطلبت منه عدم السماح بانتشار عروض السفهاء التي أصبحت الغاية الأساسية للبساط.(10) . إن فن البساط يستمد قوته، وبالتالي مشروعيته من امتداداته الشعبية عند السكان الذين شكلوا جمهوره الممتاز، ومن الهامش الذي تركه المخزن للإبداع.
ج • سلطان الطـلبة :
ارتبط هذا الشكل الفرجوي بطلبة جامعة القرويين ، وهو عبارة عن احتفال موسمي ، سنه السلطان العلوي المولى الرشيد (1666 – 1672) تكريما للعلماء والطلبة كمكافأة لهم على مساعدته في الإنتصار على أبى مشعل الذي كان يضطهد سكان "مدينة تازة"، وكذا مواجهة أخيه مولاي أحمد الذي يزاحمه على الحكم ، ويسعى لذلك إلي القضاء عليه بعد موت أبيهما مولاي الشريف أمير تافيلالت)(10)، حيث أقام لهم حفلا (نزاهة) على ضفاف وادي فاس ، حيث أتاح لهم فرصة اختيار واحد منهم سلطانا يحكمهم أسبوعا كاملا ، وأضحى تقليدا يقوم به الطلبة في الربيع من كل عام ، وتوزع فيه الأدوار انطلاقا من الملك (الذي يحصل على اللقب في مزاد علني) ، مرورا بحاشيته ، وصولا إلى الجمهور المشارك المتكون من الطلبة وسكان المدينة )(11) ، ففي صباح الخميس الأول من شهر مارس من كل سنة ، تعلن السلطنة الرسمية لطالب من جامعة القرويين بمدينة فاس ، ويحاط بكل مظاهر البروتوكول ، ثم يتوجه في موكب رسمي إلى ضفاف وادي فاس ، حيث تنصب الخيام ، ويبدأ الاحتفال .
وفي صباح اليوم الثاني يرسل ملك البلاد الرسمي كسوة فاخرة لـسلطان الطلبة ، ويأذن له بالاجتماع به قبل صلاة الجمعة ، ويمر الأسبوع كله في جو من المرح والبهجة ويخضع لمراسيم سلطنة زائفة كلها ولائم واحتفالات غنائية وقراءات شعرية وخطب ساخرة . (وفي اليوم السادس من قيام هذه السلطنة تتهيأ أمة "الطلبة" لاستقبال ملك البلاد الرسمي ، الذي يصل إلى مقر السلطة عصر هذا اليوم . ويمتاز هذا الاحتفال الذي يدوم عدة ساعات بالخطاب الفكاهي الحاذق الذي يلقيه "مدير التشريفات السلطانية" والذي يعد خصيصا لهذه المناسبة بلغة مليئة بالنكات والكلمات الهازلة المضحكة ، كما يمتاز بالحفل الساهر الذي ينظمه الطلبة وسلطانهم للملك الشرعي ، والذي تتخلله القصائد الفكاهية والأغاني الهزلية .)(12) ، وحينما تنقضي الليلة السابعة ( يكون من صالح السلطان الطالب أن يغادر عرشه وإلا تعرض للضرب بالعصا من طرف أعضاء حاشيته الذين لا يترددون في القيام بذلك ، وكذا بإلقائه في الوادي لإشعاره بزيف ملكه وتعطيل سلطته)(13) . وقد انتقلت هذه الفرجة إلى جامعة ابن يوسف بمراكش في تاريخ لاحق كما يؤكد الحسن السائح : ( عرفت مدينة فاس ومدينة مراكش في العصور المتأخرة من تاريخ المغرب نوعا من المسرحيات الغريبة التي لا توجد في أي مكان آخر.. تلك هي تمثيلية "سلطان الطلبة" )(14).
د • عـبيدات الرما :
تعتبر فرجة "عبيدات الرما " ، من الفرجات الأكثر شعبية في العديد من المناطق المغربية ، فهو شكل تعبيري تراثي ، ظهر بالمغرب منذ القرن السادس عشر الميلادي ، وهي فرجة تقوم على الارتجال والتنكيت والغناء والرقص ، وانطلاقا من التسمية " عبيدات الرما " يتعلق الأمر بجماعة تصاحب الصيادين ، أو يشتغلون ( كـ "حياحة" أثناء عملية الصيد ، أو كندماء ومضحكين للرماة في أوقات الراحة وساعات السهر ، حيث ينصرفون إلى إعداد الأطعمة والشاي ويجهزون البنادق لاستقبال يوم جديد يقضونه في تعقب الطرائد والإيقاع بوحيش الغابة )(15) ، والعادة أن لكل طائفة من عبيدات الرما مقدم يسهر على تسييرها ورعايتها ،
كما أن المظهر الروحي والعسكري لهؤلاء يسبق عندهم عمل الفرجة والقيام بألوان التمثيل . . الفرجة لم تكن على ما يبدو القصد من تواجدهم )(16) ، وأثناء التمثيل يزين عبيدات الرما ( رؤوسهم عادة بقلنسوات مزخرفة بأصداف الحلزون زخرفة مضحكة ، ويتدلى من ورائهم ذنب الثعلب ، وقد يرتدي الواحد منهم كسوة نسوية إذا دعا المشهد إلى تقليد النساء )(17) .
وعندما تجمعهم المناسبات ومواسم الأولياء يتحولون من تلقاء أنفسهم إلى مغنين شعبيين يطعمون فرجاتهم ببعض المرتجلات والاسكتشات الهزلية التي يتطرقون فيها إلى موضوعات بسيطة يستمدونها من صميم حياتهم اليومية وواقعهم المعيش من قبيل مكائد الزواج والصراع التقليدي بين البدوي والمديني والنزاعات المألوفة لديهم حول الحدود وأماكن الرعي وبيع وشراء الدواب وما ينجم عن ذلك من دسائس ومقالب )(18) ، إضافة إلى تناول حياة المرأة وقصص العجائز ، و" الصابة " واقتسام محصولها وتوزيع الإرث بين أخوين أو أفراد العائلة ، وعن المنازعات بين الكسول والنشيط .. ( ولضبط الميزان يتوفر عبيدات الرما على بعض آلات الإيقاع كالتعريجة والبندير والمقص .. وكما يظهر، فكلها أدوات لها صلة بالمجتمع الزراعي الرعوي الذي تنتمي إليه هذه الفرجة)(19).
الهوامش :
1.د.حسن المنيعي : أبحاث في المسرح المغربي ص 20
2. د.حسن المنيعي : نفس المصدر ص 21
3. حسن بحراوي :المسرح المغربي : بحث في الأصول ال ص 24
4. حسن بحراوي :المصدر السابق ص 24
5.د.حسن المنيعي : المصدر السابق ص 23
6. د.حسن المنيعي : المصدر السابق ص 24
7. د.حسن المنيعي : نفس المصدر ص26و27
8. د.حسن المنيعي : نفس المصدر ص27
9. د.حسن المنيعي : نفس المصدر ص28
10. د.حسن المنيعي : المسرح مرة أخرى ص 14
11. د.حسن المنيعي : نفس المصدر ص 15
12. محمد أديب السلاوي : المسرح المغربي : البداية والامتداد ص 12
13. د.حسن المنيعي : المصدر السابق ص 35
14. الحسن السائح : نظرات في القصة والمسرحية في الأدب المغربي ص103
15. . حسن بحراوي : المسرح المغربي بحث في الأصول ص 80 و81
16. عبد الله شقرون : المصدر السابق ص 41 و42
17. عبد الله شقرون : نفس المصدر السابق ص 44
18. حسن بحراوي :المصدر السابق ص 82
19. حسن بحراوي :المصدر السابق ص 82
20. . د. حسن المنيعي : نفس المصدر ص41
تعليقات
إرسال تعليق